الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011





فجر الكهرباء الأبرص


( شذرات)



  

أمنية

سأترك لك الباب مواربا في أخر الليل لتدخلي أيتها لأمنية العصية .. أدخلي على أطراف أصابعك لكي لا توقظينني وعلى مشارف الصباح عندما تكون الأنوار العامة قد أطفأت .. ستنسلين حاملة رائحتك معك .. حتى ظفرك الذي يسقط منك على العتبة لن تتركيه .

قناعة

كم كريمة هي القناعة .. فهي كفيلة بأن تملأ أحشاء سكان أشد الأكواخ بؤسا في العالم زادهم عمرهم كاملاً.

عطش

بأي خف سأروي عطشك أيها الكلب النابح في داخلي إلى فريستك الغاية الأسمى ..

اختلاف

كقطة تموء في شارع مقفر أردد آرائي عليكم أنتم الذين لا تحبذونها .

شعلة

الأمل شعلة نار في ليل حالك نوقدها حتى في لوازمنا الشخصية .

لعبة

كيس في الطريق اللعبة المفضلة للريح .

هرم

جهد ضائع إن تشكل بناء هرمي من حفنة من الأغبياء .

تفاحة نيوتن

تفاحة تسقط وكان قانون فيزيائي بالأسفل ينتظرها مهللاً , بالتأكيد أنها فرحت بذلك فهي لم تعد ككل التفاحات التي سرعان ما يتلقفها الفم ، أو المصير المعتاد لتستحيل إلى خل التفاح . لقد انتقاها نيوتن من بين كل التفاحات ليسند إليها مهمة إثبات نظريته ، ولعلها هي انتقته أيضاً لهذه المهمة دون كل الرجال ، فعند سقوطها بعكس كل الرجال تمهل قبل أن يقضمها مدة تكفي لتنير له السبيل إلى ذلك الاكتشاف .

صعوبة

لا تحاول أن تصلح ذات البين بين كلبين .

تشبيه

الرمل مسبحة الريح والغبار خرقتها والضباب كفنها

قمل

القمل بالنسبة للرأس هل هو بمثابة الهراطقة في الهيكل المقدس ؟
غبي

سؤال الغبي سؤال معطوب.
قسمة

إنك لن تعدل مهما حاولت في ، توزيع فريسة .

بالون

في عيد ميلاد أحد الأطفال آثرت الجاذبية في لفتة حانية استثناء بالون ملون من قانونها .

 سؤال

هل وجدت الشمس لنسرد على ضوئها أحلام الليل ؟

نصيحة

افعل كالسلف الأول من الرومنسيين ، فعنون موعد غرامك بشجرة .

صفقة

كأنما هناك مقايضة قد تمت : خذوا الكهرباء وأعطونا الفجر الأزرق ،كي نحز عنقه في علب الليل وتحت  أعمدة الإضاءة العامة .
الكمال

في أسوء تعريفاته الكمال ، حالة من انسداد الأفق والإفلاس.

الغرق

هل الغرق هو اكتشاف فادح لوهم الضفة الأخرى ؟

ظلال

وقت المغيب نطوي ظلالنا نتركها عهدة في الغرفة المظلمة لليل ، في الصباح تتولى الشمس إعادة الظلال نظيفة مكوية الأموات الذين لم يعودوا بحاجة إلى ظلالهم يهبونها صدقة لتزيين غرفة الليل ، لهذا كلما حضر الموت أزداد الليل سواداً.

احترام

احدودبت ظهورهم احتراماً لرؤسائهم لا شفاهم الله

 سكاكين وشوك

هل الدبلوماسية الدولية إلا طقم فاخر ثمين من سكاكين وشوك المائدة ، تؤكل بها الضحية وتنهش وتقسم باتفاق يراعي إتيكيت المائدة الدولية ، مع مراعاة شهيات كل واحد من أعضائها.

برجماتية
لقد ضاق الله ذرعا ببرجماتية أصحاب حقائب السمسونيت ببدلاتهم الأنيقة وسجائرهم الفاخرة فقد حولوا كنائسه إلى مخازن للملابس الداخلية . لن يرسل نبياً في هذا الشأن ، ولكن سوف يرسل الله عثاً على أوراقهم حيلتهم ، وبواسيراً على مؤخراتهم المرتكزة خلف المكاتب .

سؤال حكيم

السؤال دائما بالنسبة إلى الحكيم كالعروس البكر المزفوفة إلى مخدعه ، أما الجواب فسرعان ما يفقد بريقة في نظر الحكيم ، فيصبح كالعانس البلهاء ، يتلهى برأسها القمل .

مطر

أمطرت السماء فتمخطنا كثيرا

مقارنة

الرأسمالية تطالب المصعوق بالكهرباء بدفع فاتورة الكهرباء التي صعقته بينما الاشتراكية تطالبنا بالانصعاق معها حتى درجة التفحم .

 سم و دواء

ترتبط دائما دائما نجاعة الدواء بمقدار معين يلتزم به ، بينما السم بخلاف ذلك مسرف الكرم ، تماما كالكره والحقد والضغينة ، لا تحده حدود .

ميلاد التفاهة

كمتسولة تداهمنا التفاهة بملامحها السخيفة .. تقتحم الجدران تتسلل خلسة من الأبواب تدخل بدون أستاذان نطردها نسجل ضدها محضر إزعاج في قسم الشرطة ، لكن رجل الشرطة بابتسامة سخيفة كملامحها يطلق سراحها و ينذرنا بألا نتعرض لها.

قيل أن التفاهة التي وصفها أحد القوادين بأنها كانت نكتة سمجة لم تكن تروق لأحد ولدت تفاهات وسخافات كثيرة بعد أن فاجأها المخاض في إحدى الزوايا المنسية بقاع المدينة تحت لوحة نيون عريضة تعلن عن مشروب لا طعم ولا لون له.

ما أنجبتهم التفاهة سجلوا شرعا على أنهم أبناء المرحلة ولسوا أبناء سفاح ، فتهافتت والسخافات وترعرعت بأشكال وألوان لا عهد لنا بتا وملئت المدينة بصخبها وضجيجها .. وفي بيان تناقلته وسائل الاتصال المختلفة في المدينة أعلن تنصيب التفاهة حاكماً عاماً للمدينة بارتياح أبدته كافة الطبقات الاجتماعية والانتماءات السياسية بها ..



دولار

أطعم مسكيناً أعل يتيماً قلنا للدولار

إناء فارغ

يا الله إني إناء فارغ على مائدتك إملئني بشهد عسلك أو أكسرني .


علاقة


ما هذه  العلاقة الحميمية بينهما ؟ ما لم تتدخل حبيبته قرة عينه الملعقة ، لن يتحرك لن يذيقك شهد حلاوته ، السكر في كوب الشاي ما لم تحركه تدفعه إلى ذلك دفعاً ... عشان خاطري .

برنامج عمل

برغم ما تتحمل النملة من عبء العمل والوجبات في إطار الفريق ، فإنه لم يحدث مرة أن تبجحت هذه النملة النشيطة بالثرثرة عن برنامج عمل يومي حافل ، و لأنها لا تتحمل ذلك بسليقتها ولا تطيقه ، فقد كان في ذلك الصباح أحد المديرين التنفيذيين عرضة لأشد لسعاتها حقداً

ريح خاصة

قد تهز الريح الأغصان و تؤرجح العناقيد لكن قد لا يسقط عنقود بذاته في اللحظة ذاتها التي ننتظره فيها بالأسفل ، فلا بد من ريح طيبة لأجل ذلك مسجلة خصيصاً لحسابنا .

مناديل

-       انتظر العطارون قروناً كي يجدوا الكيفية الملائمة للإعلان عن اختراعهم ، حتى عرفت المناديل .

-       المنديل سفير للعطر.

-       رائحة بلا منديل تبقى منبوذة لا يعترف بها أحد ، في الجو.

-       أيتها الرائحة الزكية الناشز في الهواء قد جعلت لك المناديل مستقراً.

-       لكل رائحة منديل ولكل منديل رائحة.

























 آباء وأبناء


- لماذا لا تذهب للصلاة على قبر جدي؟.
- لأننا نعيش في جزء آخر من البلاد،وقبره يبعد من هنا كثيرا.
- أعتقد أنه يجب علي أن أذهب للصلاة على قبر جدي.
- سنذهب يوما ما.
- آمل ألا نعيش في مكان لا أستطيع أن أذهب فيه للصلاة على قبرك عندما تموت.
- علينا أن نتخذ ترتيبات خاصة لهذا الأمر.
- ألا تعتقد انه يمكننا جميعا أن ندفن في مكان ملائم؟. .ألا يمكننا أن ندفن جميعا في مزرعة؟.
- فكرة سديدة.
- عندئذ يمكنني أن أتوقف للصلاة على قبر جدي وأنا في طريقي إلى المزرعة.
- أنت عملي جدا.
- لأنني لست مرتاحا إطلاقا،كوني لم أزر قبر جدي.
* * *
لقد مات أبي بعد فترة معاناة مع المرض ليست بالقصيرة،وذلك بعد أن سقط فجأة في صباح احد الأيام وهو يستعد لمزاولة عمله المعتاد،مريضا على درجة شديدة من المرض أدى إلى شل جسمه كاملا،مات بعد أن مكث طويلا في المستشفى،في قريته وهو المكان الذي يأنس إليه كثيرا،فبعد أن سئم من طول مكوثه في المستشفى بلا فائدة ألح علينا بأن نعيده إلى بيته في القرية .

لقد مات أبي بعد أن سئم المرض وضعفه وهوانه،بعد مدة كان فيها مريض البيت أو رجل البيت المريض المحاط بالشفقة من كافة أبنائه وبناته وكافة أفراد العائلة والأقارب الذين كانوا يتقاطرون على بيتنا،فيتحلقون حول أبي المسجى صامتين في بلادة ،يعكسون على ملامح وجوههم شفقة مؤذية .

ذات صباح مبكر رحل أبي بعد أن مل ضعف وهوان المرض،والشفقة المؤذية التي أحيط بها من قبل عائلته وأهله وأقاربه،اختار طريق السماء هربا من ذل المرض والشفقة البليدة التي انطبعت في نظرات من يزورونه، فكان قد أصبح في عيونهم مجرد  موضوع للموعظة البائسة وهو بجسده الضعيف الهزيل المهزوم بالمرض .

لم يعتد أبي أبدا حالة الضعف والهوان هذه في حياته،فطوال السنين التي عاشها في الدنيا كان مبادرا دائما إلى ركوب الصعب حين اضطر إلى ذلك من أجل تحصيل قوته وقوت عياله،ولم يستسلم يوما للظروف وقسوتها،وحتى أخريات حياته كان يعتمد يوما بيوم على نفسه في السعي إلى رزقه،حيث اعتاد يوميا الخروج منذ ساعات الصباح الأولى،للجلوس في متجره البسيط والذي كان يشكل له مصدر الرزق الوحيد،مكنه من إعالة عائلة كبيرة نوعا ما كانت تتكون من تسعة أشخاص،بالإضافة إلى الضيوف الذين يترددون بكثرة على البيت وهم أكثرهم أقارب ومعارف قادمون من القرية من أجل بعض المراجعات الضرورية في الجهات الحكومية،والمواعيد الطبية في المستشفيات،التي تضطر أهل القرى لزيارة المدينة عادة.

لم يكن لأبي حتى وفاته ملف طبي مقلق،فلم يكن يشكو من علة بعينها في جسمه،سوى بعض مضايقات عسر الهضم والذي يكاد يشكوا منه أفراد العائلة كافة وإيمانا بمقولة تقليدية بأن لكل داء دواء فقد ذهب أبي لطلب العلاج في الهند ،إلى  جانب ذلك كان أبي يعاني  شيئا من ضعف النظر في عينيه والذي يبدو إنه ضريبة أو نتيجة طبيعية لكبر السن،أما في عاداته الغذائية فكان ما بين الاعتدال والتقشف في طعامه،كما لم يكن له طوال حياته عادات ضارة يمارسها أو يسرف في ممارستها، تفضي على مدى بعيد إلى نتيجة صحية سيئة محتومة، كالشرب والتدخين.

ولعل السبب الأساسي الذي أدى بأبي إلى حتفه،في نظري فهو قسوته على نفسه والخشونة في تحميل النفس أعباء فوق طاقتها ،وهو الأمر الذي اعتاده منذ الصغر،حينما يسرد لنا أبي أنا وأخوتي في بعض الأحيان بعضا من حالات  البؤس والمشقة و المعاناة التي واجهها وعانا منها في طفولته وفي صباه وحتى في صدر شبابه ،حيث إن الظروف في الزمن الماضي ليست من السهولة واليسر كما هي عليه الآن مثلما يحدثنا أبي،فقد كان في ذلك الوقت مجرد تحصيل اللقمة اليومية يتطلب تعب ومشقة كبيرين تستغرق نهارا بطوله في ظل ظروف سيئة من ندرة العمل والفقر وقسوة لقمة العيش في المجتمع بأسره،مما حدا بالكثيرين ومن ضمنهم أبي في ذلك الوقت للهجرة خارج البلاد واللجوء لطلب الرزق في دول الجوار اتقاء لشدة الفاقة والعوز في مجتمعهم الذي يعيش حال مؤسية من البؤس الاجتماعي والاقتصادي،برغم إن الهجرة لم تكن تبدو بديلا ورديا مع مشاعر الغربة الصعبة التي كانوا يعانون منها وهم بعيدون عن وطنهم وأهلوهم،ومع المهن الصعبة والمزرية التي كانوا يضطرون للانخراط  في ممارستها بعض الأحيان خارج البلد.

لقد جعلت المشقة من أبي الذي تربى وترعرع عليها في زمن عرف بقسوته وصعوبته حين لم يكن من بديل آخر متوفر فيه سوى هذه المشقة،جعلت منه صديقا لها طوال عمره فلم يأنس ولم يثق إلا بها في حله و ترحاله ،عكس ذلك لم تشكل له الراحة إغراء أبدا ولا دعة العيش برغم إنه في الواقع لم يحقق أبسط معاييرهما حتى وهو في أخريات حياته،هو الذي كان يبدأ يومه بالكدح وينتهي به ،فقد كان ملزما حياته بشكل قاسي بالخشونة الشديدة،الأمر الذي جعل هذه الخشونة في عيش الحياة هي النظام الذي ينتظم به البيت بكافة أفراده، ،فكان أبي بالقسوة و الصرامة التي يحاول بأن يلزم كل من حوله بمشاركته فيها ينصب حاجزا من الصعوبة عبوره أو تخطيه  بيننا و بينه، فهو لا يتزحزح خطوة واحدة عن مفهوم ثابت للحياة يتمسك به لا يتغير مطلقا هو مفهوم المعسكر،حيث الأوامر والنواهي الصارمة والاستنفار المستمر من أهم ما يميز هذا المفهوم لديه،و كان من عادات أبي تحت إلحاح الاستنفار الدائم أن يكلفنا بمهام وبأمور فوق طاقة سننا الصغيرة البضة في ذلك الوقت، لكن أمره منذ ساعة صدوره يكون نافذا ولا سبيل لمخالفته أو التملص من تنفيذه والقيام به،خوفا من ردة فعله العنيفة والتي يختزل فيها أحقيته المشروعة كأب في عقاب أبنائه ،والذي يأتي قاسيا في العادة هذا العقاب بدرجة كبيرة من القسوة على محاولة التملص أو التقصير على الأمر الصادر، وكان يفرض علينا مرافقته في بعض المشاوير كالقيام ببعض واجبات الزيارة للأهل والأقارب في عدة أماكن متباعدة في اليوم ذاته برغم إنه من حيث المبدأ لا اعتراض على ذلك،لكن تلك الطريقة للزيارة كانت تشكل إرهاقا من الصعب تحمله،فكان عادة ما يبدأ مشوارا يوميا يكون محدد مسبقا،من على عتبة الصباح الباكر مباشرة،مستنفرا كل من في البيت وهو ما يعكس سيطرة صارمة من قبله بالنسبة لمواعيد النوم و الاستيقاظ المبكرين في البيت، فلم يكن يتساهل أبدا معنا نحن أولاده إذا ما عدنا متأخرين بعض الشيء ليلا أو بقينا نائمين إلى وقت متأخر وعد ذلك الأمر استهتارا يتوجب العقاب المباشر العنيف عليه برغم إن السهر المعتدل في الليل أو التأخر المعتدل في الاستيقاظ من النوم لا يعتبران من الأمور التي تستوجب العقاب عليها حتى في عرف أشد المربين وأولياء الأمور صرامة.

مات أبي رحمة الله عليه وهو يحمل على كاهله تعب الحياة ومشقتها،فلم تسعفه هذه الحياة الظالمة بفترة استراحة من تعبها و مكدتها حتى في أخريات حياته،حيث استغرقته بأعبائها منذ شبابه حتى مشيبه،فلم يحظى بهدنة معها ولم ينل منها ما يكافئ بذله وتعبه فيها،فخرج من الحياة وهي تدين له باعتذار،ولكن هيهات لهذه الحياة الظلوم أن تعتذر لأحد.


الأحد، 27 نوفمبر 2011

قصص قصيرة


رحلة الصيف


 
الواحة
نقطة كثيفة من الظل والاخضرار , جنة وارفة الظلال كثيفة الخضرة , تعيش وحدة متعبدة وسط محيط من تضاريس الهضاب الجبلية القاحلة .
ولتعتاد العيش ضمن الإمكانيات الشحيحة التي توفرها الطبيعة القاسية في مثل هذه التضاريس , كان لا بد لها من أن تتحلى بقناعة المتصوفة وكفايتهم باليسير من الزاد فهي ترتبط ارتباطا  مشيميا  بخيط فضي من الماء ينحدر إليها من أحد السفوح القريبة يتهادى بقطراته الواهنة ليصب بعد أن تأخذ الشمس نصيبها منه بالتبخر في البساتين والحقول هو بمثابة قربة الماء التي تعتمد عليها الواحة.
الحاجز
يتمدد مستلقيا  عريضا  ضخما  بجسمه الهائل الكبير عالقا  هناك كأفعى عملاقة تقضي بياتها الشتوي يزاحم المكان بحجمه العملاق يسد المنافذ يحاصرها بحضوره الكثيف.. قبل ذلك قبل أن يفترش حيز المكان ويشغله بكثافته الثقيلة ويظل لابثا  مهيمنا  باسطا  سطوته على روح المكان كان يمتد المكان فسيحا  متمتعا  برحابة تعانق الضفاف فكانت قبل ذلك هذه الضفاف شرفات غناء للحلم مسكونة بترديد أغنية الطير وصوت الثغاء وخرير المياه, لقد استيقظت الواحة ذات صباح على صوت البلدوزرات والآلات الثقيلة تحيل هدأة المكان إلى جوقة نشاز تضج بهدير المحركات وصخبها الذي يصم الآذان في الوادي قبالة الواحة, حيث شرعوا يصنعونه ينشئون بدنه جسما  من أكوام التراب والكنكريت وألواح الخرسانة حاجزا  يفصل الواحة عن فعل معانقتها الأزلي الحميم للوادي سورا  أعلوه حتى عنان النخيل يكسر المعانقة بين الواحة والوادي, فتتوارى الواحة خلفه كسيرة القلب حزينة معزولة عن محيطها وواديها الدافق بالماء النابض بالخصب في رحمها, في المكان الذي كان مستقرا  رحبا  لجيران الواحة الصيفيين الذين يتوافدون في كل صيف إلى جوارها يستقرون في أكواخ من السعف على امتداد ضفة الوادي قبالة الواحة, واديها المتدفق المتفايض بالغدران وبرك المياه في مجراه , المشهورة به كعنوان جميل حل هناك جسما  بشعا  ثمرة سفاح الهندسة والحلول الفنية الغائية مع الطبيعة وبكورتها التي لا تقبل المساس والتدخل إلا في أضيق الحدود لقد صنعوه عجلا  له خوار,  أشادوه وأعلوه وعمدوه بالإسفلت, فإذا به يستحيل حية تسعى بالشر تزنر الواحة  تخفر بالموت .
الرحلة
عندما يحل الصيف  الحار يغدو المكان بجوار الساحل صعبا  لا يطاق من أثر الرطوبة الخانقة التي تحل بكثافة خلال الصيف بطوله, عند ذاك يستبد بنا حنين مشبوب إلى ظلال واحات النخيل في الداخل المنزرعة هناك وسط الهضاب الجبلية لسلسلة جبال ع مان, النابتة على ضفاف الأودية الخصبة المنحدرة من أعالي هذه الجبال, يستحثنا الحنين كلما أتى الصيف إلى هناك تقودنا حاجتنا إلى الاصطياف والهرب من الحرارة الخانقة في هذا الفصل الطويل الشديد الحرارة, ننتقل بعد أن تكون المدارس قد أوصدت أبوابها بنهاية العام الدراسي على مشارف الصيف, في هجرة تأخذ على مجرى العادة السنوية لعائلات كثيرة تقطن الساحل, هجرة موسمية لها طقوسها الاجتماعية والاقتصادية وليس انتقالا مجردا  فحسب من مكان إلى آخر, بل أن هذه الهجرة التي تعود ممارستها كاعتياد موسمي إلى قرون طويلة من الساحل إلى مناطق جبال الحجر هي في أعماقها ومضامينها كظاهرة اجتماعية مازالت تتواصل وتسجل حضورا  لافتا , تعد شكلا  من أشكال التواصل والتكامل الاقتصادي والاجتماعي والسكاني في المجتمع العماني ما بين إقليمين مختلفين متمايزين في تركيبتهما السكانية والنشاط السكاني, واختلاف التضاريس والطبيعة والبيئة لكل أقليم.
بعد أن نفرغ من كد الاختبارات المدرسية في آخر العام ومع ظهور بوادر الصيف بشكل محسوس حيث ندخل معاناة النهار الصعبة مع شمس لاهبة تنسكب بأشعتها المحرقة فوق الرؤوس واشتعال الجدران والحوائط والسطوح وكل جسم بالحرارة الشديدة في أرجاء المكان, مع كثافة شديدة من الرطوبة التي تكتنف المكان وتحيله أشبه بحمام بخار, مع ظهور هذه البوادر لغلبة الصيف وتمكنه واستوائه في مكانة راسخة في الجو يستحثنا ذلك استحثاثا ملحا  يدفع إلى مغادرة المكان في هجرة صيفية يقوم بها بالأخص النساء والأطفال وصغار السن من الأسرة ويظل الرجال لمتابعة أعمالهم ومتطلبات تحصيل الرزق اليومي.
 فكان التجهيز لهذه الهجرة يأخذ متعة خاصة لدينا نحن صغار السن وذلك بمشاركتهم في توضيب الأمتعة وإحضار الأغراض والمتطلبات الأخرى التي تكون الحاجة إليها ضرورية في مكان انتقالنا والتي جلها في الحقيقة كميات من الأسماك المجففة والمملحة وهي تعد وجبة ضرورية في الصيف فيجري حمل كميات منها ليس بقصد الاستعمال وحده فحسب لكن ولأنها وجبة صيفية فانها تشكل هذه الأسماك من الهدايا المناسبة التي نحملها معنا في انتقالنا إلى الواحات فيجري تقديمها إلى الأهل والأصدقاء هناك وهم يتقبلونها بامتنان كبير في انتظار الفرصة للرد على هذه الهدية في مثل ثمانتها وقدرها.
كان أمر الهجرة هذه تتحدد الحماسة إليها من عدمه انطلاقا من كثافة الأمطار والسيول والأودية التي حظت بها مناطق الواحات في الداخل , في الموسم الشتوي ومظاهر الخصب التي باتت تخلفها هذه الأمطار والسيول هناك , إذ تتحدد الهجرة حسب توافر هذه المظاهر من الخصب في نطاق الواحات وفي مجاري الأودية وضفاف مجاري السيول فتتخم عند ذلك بفعل موسم شتوي مطير قنوات أفلاج الواحات والأودية والضفاف بالمياه الغزيرة المتدفقة وسط البساتين الخضراء في الواحات وفي مجاري الأودية على شكل برك عميقة وغدران جارية على طول مجرى الوادي, مما يشكل كميات هذه المياه المتدفقة الغزيرة عاملا  ملطفا  مهما  لحرارة الصيف الشديدة والقاسية التي تسكن الجو والذي يكون مظهره(الصيف) الحاد والقاسي هناك في الواحات الهواء الجاف الشديد السخونة بالإضافة إلى الشمس المحرقة التي تسلط سياط أشعتها المحرقة  على النهار بطوله, فيغدو خلو المكان حينها من هذه المسطحات المائية المتدفقة, محرقة حقيقية يطال لهيب نارها الحيوان والبشر والشجر والحجر, فيصبح عندها مناخ الساحل برغم رطوبته الخانقة أكثر احتمالا أو أسهل للتكيف في تحمل حرارة الجو فيه.
كانت تشكل لنا هذه الهجرة الصيفية نحن الأطفال نزهة ممتعة نقضي خلالها إجازتنا الصيفية, ننتظرها بفارغ الصبر بعد قضاء سنة دراسية كاملة من كد الدرس والفروض والواجبات المدرسية حيث كانت تحركنا لواعج شوق ولهفة لمسارح اللعب والعبث البريء هناك كنا نصرف جل النهار له هانئين جذلين بهذا اللعب والعبث بين الغدران المائية المتدفقة والبرك العميقة في الوادي وبين بساتين وحقول الواحة التي تنتشر فوق رؤوسنا بنخيلها وأشجارها الوارفة مظلة كبيرة تحجب لهيب الشمس وتلطف الجو الحار.
بالإضافة إلى ملاك المقاصير والبساتين في الواحة الذين يسكنون الساحل والذين يحافظون على اتصال وتواصل مع مناطقهم الأصل (البلاد) والذين يعتبرون الصيف فرصة لتنفيذ هذا التواصل وتجديده اجتماعيا, حيث يسكنون وسط مقاصيرهم وبساتينهم كل الفترة التي يمضونها من الصيف, هناك القادمون للاصطياف هربا  من شدة حرارة الصيف على الساحل من سكان الساحل أصلا  والذين لا يمتون بصلة بمجتمع الواحة, يلجأون إلى الواحات في الصيف ويكون مستقرهم في الأغلب على ضفاف الأودية قبالة الواحات, حيث ينتشر تواجدهم في أكواخ من السعف مؤقتة تقام على عجل, مشكلين بذلك مجتمعا  صغيرا  بجانب مجتمع الواحة, تمتد مرافق سكناه على طوال ضفة الوادي وهم في أغلبهم الأعم من الأجيال الذين يمتازون بجدة ارتباطهم بالساحل أصلا , القادمون عبر البحر من ناحية الشرق, وهم بحكم هذه الجدة تنطق عادات الموطن الأصل في أفعالهم وممارساتهم أو تغلب عليها غلبة طاغية وكذلك هم في حديثهم, إلى جانب العربية لهم لسان موطنهم الذي قدموا منه ونظرا  لاعتياد لجوئهم إلى الواحة في كل صيف فأنهم باتوا يرتبطون مع سكان الواحة بارتباطات وأواصر علاقة اجتماعية قوية فهم بطبيعتهم طيبون واجتماعيون .
 وقد أتاح ترحيب أهل الواحة بهم وتقبلهم المضياف لهذه الجيرة الموسمية الطيبة لديهم أن تثمر ناحية الارتباط بالمكان ارتباطا  حميما , فبعض منهم من العائلات بعد طول تردد في كل صيف خلال سنوات متوالية طويلة للاصطياف في الواحة, استقر بهم المقام بشكل نهائي و اصبحوا مشاركين مشاركة متكافئة للسكان الأصليين في امتلاك مقاصير وبساتين وبيوت خاصة بهم رسخت مكانتهم الاجتماعية في أذيال النسيج الاجتماعي لمجتمع الواحة الصغير.
هجرة الصيف هذه التي كانت ديدن أهل الساحل حتى منتصف ثمانينات القرن الماضي في حرص على الاعتياد بشكل ثابت في الانتقال مع قدوم الصيف من الساحل إلى ريف الواحات من المناطق الجبلية في داخل عمان, كانت ممارسة بذلك الزخم وتلك الكثافة, لأن مكانة الواحة والمجتمع الريفي بشكل عام لم تتضعضع بعد بالنسبة للإطار العام للسكان وفقا  لشكل الحياة المستقرة عليه عادات المجتمع وحراكه الاجتماعي ونشاطه الاقتصادي الممارس وفقا  لهذا الحراك و الناتج عنه كإفراز طبيعي, فقد كانت الواحات ومجتمعاتها الريفية والعادات والشكل الاقتصادي الزراعي المرتبط بها, تشكل مكانة راسخة في المجتمع العماني قبل أن يتعرض هذا المجتمع في بناه وتركيبته السكانية لمتغيرات اجتماعية واقتصادية متسارعة نحت به إلى أن يتحول إلى الشكل المديني على الأقل على مستوى الوظائف والأعمال الحكومية التي اتجهت إليها الأكثرية الغالبة من السكان واعتمادهم عليها في مقتدراتهم الحياتية الأمر الذي أدى بالتالي إلى أن تأخذ المدينة في مقابل الريف ومجتمع الواحة محور استقطاب لا يقاوم له مغريا ته ,  مشكلا هذا الاستقطاب نزيفا  يسفح قطاعا  واسعا  ومهما  من التركيبة السكانية في الواحات , ناحية المدينة , وضمورا  بالتالي لأشكال النشاط الزراعي الريفي التقليدي الممارس والمهن التقليدية المرتبطة به وضمورا في الأخير نتيجة لذلك الاقتصاد الزراعي الريفي المرتبط بهذا النشاط .
الواحة والمطر


 
كلنا في الواحة في انتظار المطر... نحلم به في كل حين يسلمنا الحلم به إلى  تحين الفرص لهطوله كلما ظهرت في الأفق بارقة أمل لذلك على شكل سحابات تتدلى على رؤوس الجبال ... نظل نرقبها أغلب الوقت وكأننا نرسل لها الرجاء تلو الرجاء بالهطول والانهمار، بنظراتنا المشرعة للبعيد في الأفق هناك حيث تظل لابثة أياما  أو أسبوعا  بكامله في بعض الأحيان هذه السحابات.
في الصيف وقبل الشتاء نعتاد وجودها في السماء ففي الظهيرات القائظة الشديدة الحرارة قد تعودنا ظهورها في أغلب شهور الصيف في الواحة من ناحية الجنوب في شكل لسان طويل عملاق كثيف البياض كثير التفاصيل المرسومة بسواد حاد من الغيوم المتكاثفة فوق بعضها البعض فتظهر في سماء الصيف المشعة بالضوء القوي وكأنها عمالقة أو مرد أسطورية من قطن ناصع البياض فكانت كلما توسطت الشمس كبد السماء تظل تزحف ببطء حتى تتخطى قمم الجبال التي تحيط بالواحة ويستمر اللسان يتقدم تقود هذا التقدم ثلة من الغيمات ناصعة الجبين المنتفخة الأوداج والتي تعكس بنيتها صحة وعافية دون غيرها من سحب جيش اللسان الجرار، حتى يغطي السماء من حول المكان ويحجب الشمس خلفه التي بدأت تدخل أوان الأصيل، حينها يبدأ هذا اللسان يرسل قعقعات الرعد بشكل استعراضي، مخيف محرضا  الهواء في أن ينطلق في زوابع شديدة تنال من بعض نخيل الواحة، السامقات وترسل الغبار هنا وهناك، وربما نث المطر أثناءها بقطرات بسيطة لا تكاد تبلل الثوب، و من بعد يبدأ بالتلاشي هذا اللسان العملاق من الغيم، متفرقا  بسحبه أيدي سبأ في امتداد السماء الواسعة، فيخلف الواحة لحسرتها على هذه الفرصة المواتية للمطر والتي تبددت دون أن تفيد الواحة منها شيئا  برغم الحالة المؤسية من القحط والإجداب التي تعيشها والتي قد تناهز في بعض الأحيان هذه الحالة الخمسة أعوام كاملة.
في الصباح مباشرة يبدأ سكان الواحة بتسقط أخبار نتائج الاستعراض الذي حدث بالأمس وما أسفر عنه في الواحات المجاورة البعيدة التي تقع ناحية الشرق وهو نفس الاتجاه الذي ينبثق منه عادة لسان السحاب من ناحية الجنوب الشرقي، كل الأخبار التي يعودون بها تضاعف الحسرة في قلوبهم فالنتائج التي خلفها اللسان بالأمس تكاد تكون مذهلة في ظل هذه الحرارة الشديدة للصيف، في كافة الواحات المحيطة بواحتنا فقد نالت كفايتها من الأمطار ومن السيول التي جاءت في وقتها كعامل مرطب لحلق الأرض التي أعطشها الجفاف، إلى حين يأتي الشتاء، وقد تنال أودها كاملا  بقدرة قادر، وفي الواحات الشرقية البعيدة فإن الأمطار والسيول فحدث ولا حرج حيث الصيف في ربوعها لم يعد صيفا  إلا بالاسم، فإن درجات الحرارة المنخفضة والهواء العليل الذي يكسر حدة هواء الصيف الجاف الساخن، من السمات الطقسية إذا جازت العبارة التي يخجل الصيف في المنطقة أن تنسب إليه.
كل هذه النتائج للسان الأمس جعلت أهل واحتنا يأخذون أمرها بجدية تامة فراحوا يطرحون السؤال الأخطر على أنفسهم و الذي لم يكن يفكرون فيه أو لم يخطر على بال واحد منهم من قبل وهو: لماذا واحتهم باتت منطقة محرمة على المطر والغيث وما ينتج عنها من مظاهر الخصب لقد انطلق السؤال الأخطر من عقاله لا ليسكت بإجابة عابرة ككل الأسئلة ولكن ليؤرقهم بفعله كناقوس يرن بالخطر في ليلهم ونهارهم يحاصر كل منهم بعلامة استفهامه كأنشوطة تحز بحبلها الخشن على رقابهم، فأصبح لا فكاك من مواجهته هذا السؤال والتوقف عنده و الإمعان فيه وأخذه بجدية تامة، فمن ربط إجابة السؤال بالسماء ومشيئتها في تقسيم الأرزاق على العباد، ومن ربط الإجابة بسلوك الناس من أهل الواحة وصفاتهم التي تجعلهم محرومين من الأرزاق، من حسد وبغضاء ونفاق بينهم ومن كره الخير لبعضهم البعض والمظالم والتعديات التي يمارسها نفر من أهل النفوذ والجاه من أهل الواحة على الضعفاء والمساكين في الواحة ومن عدم احترام حق الجيرة والمودة بينهم في الواحة.
أهل الخير كانت مسارعتهم لمعالجة الوضع تتمثل في إقامة صلاة الاستسقاء دعوا إليها كافة أهل الواحة للخروج إلى ظاهرها يتقدمهم طبعا، وجهاء وأعيان الواحة، أنتظموا صفوفا  تلو صفوف في صلاتهم والتي تحدث بالدعاء والابتهال فيها أحد رجالات الواحة المعروفين بالتقوى والورع والتدين في سلوكه، حيث يمحض من قبل أهلها نتيجة سيرته وسلوكه التقي والورع، بكل إمارات الاحترام والإجلال، وقد أبلى التقي الورع في الدعاء والابتهال بلاء حسن، عرض الشكاية وفصلها واعتذر باسم الكل عن الظلم والخطايا بلغة فخمة خصبة بمعجمها اللغوي، و بأداء خطابي متمكن له سحره الذي سرى أثره بين مجاميع المصلين والحاضرين المشاركين في ذلك الطقس، وقد بدا نتيجة ذلك لا شك ظلال أسف ومساءلة ضميرية على وجوه الجمع هناك فبدا للناظر المدقق في صفحة الوجوه، لهنيهة أن أكابر القوم نتيجة ذلك قد عضوا أناملهم من الندم وهم يصارعون في دخيلتهم تقريع الضمير وتبكيته لهم بعد أن استيقظ وفرك عينيه من أثر النوم الطويل، وما وجده تتردى فيه هذه النفوس من أحوال لا تسره ولا ترضيه فوخزهم في داخلهم وظل يوخزهم ويواصل الوخز بقوة أصبحوا لا يحتملونها إلا بالعودة إلى سلوك الخير والصلاح والمحبة، هذا ما قد يؤوله ناظر مدقق في صفحات الوجوه، في تلك اللحظة ووجوه أكابر الواحة محنية منكسة وكأنها تلامس حجورهم من شدة التأثر والاتعاض من الموعظة التي ختم بها التقي الورع الصلاة، وقد كان مسك ختام الصلاة مأدبة وافرة من الأرز ولحوم الضأن كان التمتع بها صعبا، إذ هاهي ريح مقبلة عليهم تسفي وجوههم بالغبار والأتربة وتطير بكل شيء في طريقها.
هذه الريح وهذا الغبار المنفلت قد استقبل من قبل نفر ليس بقليل من أهل الواحة على أنه الجواب المرسل على طقس الاستسقاء، إذ فقدان الأمل من حال الناس وسلوكهم يجعلهم لا يتوقعون إلا كل خيبة وخسران، مؤكدين أن صلاة تنقصها النوايا الصادقة والمخلصة والإيمان الذي يسند الأمر كله ويعضده في الأخير، لن تتجاوز في صعودها إلى السماء ارتفاع أصغر تلة حول الواحة ولا أصغر فسيلة نخل فيها، و كأن هذا النفر تنفس الصعداء بانطلاق الريح لينطلقوا معها بسخريتهم  وتعليقاتهم اللاذعة موجهين سهام نقدهم على الوضع في الواحة برمته.
إذا  ما زال الوضع على ما هو عليه قبل صلاة الاستسقاء واحة تشتهي المطر، تطارد كل غيمه عابرة في السماء بمغازلاتها وتوسلاتها لها بالإمطار والغيث.
حقا  أن شأنها غريب هذه الواحة، واحتنا فهي تقع على ضفة واحد من الأودية الغزيرة، لكن رغم كثرة جرياناته وغزارتها، لا يكاد يخلف لهذه الواحة التعيسة ما يكفي لمضمضة واحدة، من ماء، فمياه جرياناته الكثيرة الشديدة الغزارة تمر عليها مرور الكرام ليتلقفها البحر في الأخير، فتظل عين أهلها تبكي بدموع الحسرة والخيبة، وهم ينظرون طوفان الماء يتبدد أمام أعينهم دون أن يستفيدوا منه، فينعكس ذلك على سلوكهم وتصرفاتهم بين بعضهم بعض، في قسوة وبغضاء تسم تعاملهم فاحترام الجيرة والقربى بينهم مفتقد والود والتكافل مع بعضهم مفقود، والحسد والغيرة وكره الخير لأقرب المقربين هو ما يطغى على سمات التعامل والسلوك الاجتماعي بينهم، لقد جفت و أقحلت نفوسهم من نوايا الصلاح والخير والمحبة، مثلما هي حياضهم جافة ومقحلة، أنهم يذهبون إلى أبعد مدى في ممارسة حسدهم وغيرتهم وكره الخير للآخرين فأفعالهم وتصرفاتهم في حياتهم، ترجمة عملية وقحة لهذه الأركان الأربعة، ولو أن المكان لا يخلوا البتة من الأخيار والطيبين في تعاملهم وسلوكهم، هؤلاء المعذبون بذنوب قومهم طالما (أن النعمة تخص والنقمة تعم)، وسط هذه الواحة القاحلة المجدبة من كل شيء.
والأخيار في الواحة لأنهم لا يبحثون لمن يسندون اليه هذا الوضع المؤسي ويحملونه مسؤولية الذي وصلت إليه حال الواحة، ولا يرمونه على عاتق أحد، فهؤلاء الأخيار يجتهدون في تفسير الوضع المجدب والمقحل للواحة، برده إلى خطأ طوبغرافي اذا جازت العبارة ربما يتحمله المؤسس الأول لهذه الواحة، حيث المكان في موقعها على الطرف من منطقة ضفة الوادي وفي قلب مركز انحدار مجراه، ( والمؤسسون إما تستقبل مشاريع تأسيسهم بالتبجيل والاحترام لهم و إما بالامتعاض والتقليل من قدرهم والحط والسخرية من ذكراهم، فهذا قدر من بادر لبدء الريادة في التأسيس وأنبري لهذه المهمة، في كل زمان ومكان، فأما أن يتلو ذكر اسمهم بالتشكرات و الترحمات وكلمات الامتنان والعرفان وإما أن تصب على رؤوسهم كل اللعنات ) . ويمكن تفسير ظهور هذه الواحة على ذلك في هذا المكان بالذات حلول أحد الرعيان أو أحد الرحل هنا وأنسه إلى سمات المكان في واحد من مواسم الخصب الغزيرة بالمياه في بطن الوادي وقد نواصل في هذا التفسير الرصين لقيام الواحة ونقول أنه بعد أن استطاب العيش  ذلك الرائد الأول حظه إلحاح طلب الجيرة إلى إقناع غيره سواء من خاصته ومن قومه، أو من معارفه وأصدقائه و إغرائهم بالمجيء إلى هذه البقعة من الأرض التي في نظره الأرض التي تدر اللبن والعسل، فتعاونوا بعزم الجماعة وأخذ في استزراع وتعمير الخلاء الذي لم يكن قبل ذلك إلا مسرحا  للشمس والريح ومحطة مقيل أو مبيت للسابل والمرتحل، فبزعت على يديه وبتصميمه وهمته هذه الواحة التي أخذت تتسع وتتسع كلما أغرى المكان بعد أن اخضرت أرضه، آخرين وآخرين بالاستيطان فيه إلى أن بلغت الرقعة الخضراء المزروعة والمستصلحة فيها مسافة الكيلومترات، كل ذلك ولعل دورة موسم الخصب بطول فترتها كانت لصالحهم، محافظة على مستوى المياه في الجداول داخل مجرى الوادي وفي العيون والينابيع حواليه، غزيرة ومتدفقة طوال السنة.
هكذا يكون قد انقضى عمر جيل الرواد الأوائل في الواحة في سعادة وحبور بالتوفيق والنجاح الذي حققوه، فكان لهم ثمة لبن وعسل مثلما توقعوا في هذه الأرض، ثم في الأخير والأهم كان لهم موطن ومستقر ائتمنوا أرضه خلفهم وذريتهم، وائتمنوا صعيده الطيب الطاهر مرقد ومثوى أجداثهم بعد موتهم، فقروا عينا  في موتتهم أنه لن تقتلع غدا  أحجار الشواهد على قبورهم فتستعمل أثافي للطبخ والو قيد وتندثر آثار قبورهم وتضيع معالمها على منبسط الأرض بعد أن رحلوا.
سحابة

 
إلى نعيمة بنت سليمان التي ما زالت تقف هناك
عكازا  يسند النخيل , وتستقي السماء في كل صلاة
(1)
كان شكل الشمس أسهل بالنسبة لي فهي بسهولة عبارة عن دائرة مشعة باللون الأصفر نفذتهـا في صدر صفحة كراسة الرسم رغم إصرار مدرس الرسم الذي عنفني على ذلك , على أن ننفذ بألواننـا صورة سحابة لم أ جد رسمها , كان بمثابة الفشل الأول , يمكنني بعدها القول أنه بت مغرما  بموضوع فشلي أيما غرام , فأصبحت جل وقتي أترصد هذه الكائنات الطيفية في مجيئهـا ورواحهـا , أرقب تحركاتهـا أستوعب في رأسي الصغـير الكثير الكثير من الإستنتاجات حول حياتها القصيرة نوعا  مـا .
مسلحا  بفضول الطفل وتساؤلاته الأولى , يحلو لي أن أرقب السماء وأتفحص أديمها الأزرق , ففي كل ظهيرة أصعد فوق سطح بيتنـا أمارس ذلك بمتعة أرنو بنظري بعيدا  في امتداد السماء الشاسع فكنت لا أحفل بوهج الشمس الشديد الذي يؤذي عيني .
(2)
كانت هناك في البعيد مجرد نقطة بيضاء تتراءى من جهة الشرق في الامتداد الأزرق أرقبها تنتقل في أناة ما أن تقترب حتى تبتعد بيضاء ناصعة وخط شيب في جبهة السماء هي إذا سحابة تائهة تمضي هكذا وحيدة وكأنها خروف أبيض ضل عن القطيع , أثناء تنقلها التائه ذلك من الشرق إلى الغرب كنت أتابعها , لم يحفل بها الجميع فقد كانت الشمس ساطعة أقرب إلى مزاج الصيف والسماء كما عهدناهـا مكشوفة للشمس وضوئهـا القوي.
أراهـا تعبر فوق رأسي تماما  تمضي بهدوء وكأنهـا وقت ذاك جاءت تلقي تحية , أنسحب لأداء صلاة العصر في الطريق إلى المسجد لا تزال تحت نظري كانت قد أكملت عبورها معلقة الآن في الأفق الغربي تتدلى فوق قمم أحد الجبال المحيطة .
عند خروجي من الصلاة كنت أحس بخيبة أمل وأنا أفتش عنها ولا أجد لها أثرا  في السماء عند ذلك يئست فدلفت إلى البيت ونسيت أمرهـا بالمرة مستسلما  لإغفاءة قصيرة صحوت بعدهـا لأجد أن الظلال في باحة البيت اختفت وقد أكتنفت الجو عتمة خفيفة استمرت للحظات , نظرت إلى أعلى كانت هي تتخطى ببطء قرص الشمس تتجه ناحية الشرق تعبر بيوت القرية وبساتينها والهضاب الجبلية المحيطة بالقرية , تدلي بظلها على البيوت والبساتين والهضاب في الأسفـل .
عند العصر تناسلت نقطة السحاب أصبح يتبعها جراء من خلفها , ظلت لابثة ومن معها في ناحية قمة الجبل الغربي  مرابطة هناك , وقد مضى وقت طويل على ذلك كأنها بانتظار أوامر جديدة , تهادت في حركة بطيئة بتوابعها وغدت سمينة واستحالت جلدتها إلى اللون الداكن , وكانت تبدو من بعيد مكفهرة , كبر نسل السحابة وأصبحوا وحدهم يشكلون قطيعا  من السحابات السوداء , يرتسمون في مشهد الغروب الملون بالأحمر الناري والأصفر الذهبي كقطيع أفيال سوداء تعبر السماء , في حين أن السحابة الأم انتبذت جانبا  من المشهد وقد تضخم حجمها في كتلة هائلة من السحاب قاتمة اللون في نهاياتهـا قرون تنبثق من خلالها خيوط ضوء الشمس الآيلة للمغيب .
وكان في الهزيع الأخير من الليل رعد وكان برق وكان دمع يلمع في ذلك الهزيع الأخير من الليل , مثل ماسات ثمينة في حكم أن تسرق تنز به سحابة فاض بها الشوق إلى الأرض تدفقت بسلسبيلهـا المزاريب واجتاحت بسيولها الضفاف .
(3)
حل الشتاء باكرا  هذا العام اعتمرت رؤوس الجبال بفرو أبيض من السحاب وتمنطقت ذراهـا بصرر الغيم البيضاء ترسم مشهدا  شتويا  آسرا  , حيث تحمل الريح السحاب وتسوقه زرافات قادم من المحيط الهندي ناحية جبال عمان هكذا واحات الداخل المنزرعة بين السفوح والمنحدرات الجبلية بتضاريسها الصخرية الوعرة , أصبحت في نطاق مظلتهـا تتغير وتيرة حياتها حينها هذه الواحات فتشهد طقسا  ماطرا  يمتد لأسابيع يحيي الضرع والزرع بعد طول انتظار .
في رحابة الغيم الذي يحجب الآن الشمس خلفه ويلقي بلفاعة قاتمة على مشهد المكان في أفق تتناغم في أرجائه ألوان الرمادي والأبيض والأسود تبدأ دراما الطبيعة الساكنة والنائمة في سبات عميق وذبول بل وموات , بالإستيقاظ شيئا  فشيء مع أولى زخات المطر الذي تنز به الغيوم تتراكم في السماء وقد غدت سوداء قاتمة كأنها ثمار يانعة قد نضجت في عذوقها ها هي تهمي وتسح بالمطر بسخاء على الأرض العطشى من تحتها , ترسل دفقها هذه الغيوم بغزارة متواصلة الليل بطوله (وكأنها تختار الليل لكي تختبئ من عين النهار أمر صدقاتهـا) , قرب سقاية تسكب الماء مدرارا , كانت الشعاب والمصارف المائية قد أتخمت بفعل الغزارة الشديدة من المطر تنحدر إليها المياه من المنحدرات والسفوح الجبلية في دفق قوي تتجمع بشكل غزير لتغدو سيولا  هادرة تملأ مجاري الأودية تتفايض بها الضفاف متدفقـة في قوة وعنفوان لتخالط نعمتهـا النقمة التي لا تأمن القرى والبلدات التي تحايث هذه الأودية مكرها .
(4)
.... والوادي والوادي كان نداء تعلو به الحناجر , فقد ضجت البلدة بجوقة من الأصوات الهازجة تتردد في كلمة واحدة والوادي تدفع بها الحناجر إلى أقصى مدى , وسيلة إخبار ناجعة تتبعها في الإبلاغ والأخبار عن خبر هام ومفرح كهذا ينتظر برجاء . انطلق الجميع , فجأة غدوا خفافا  بتأثير وسحر هذه الصيحة والصيحات التي تناسلت عنها في هارمونيا شكلت سيمفونية رائعة للإستقبال وتأدية الحفاوة المطلوبة , لإكتماله للقادم من التزامات وأعباء شؤونهم التي كانوا منغمسين فيها حتى الآذان قبل ذلك . هرولوا تراكضوا مسرعين يتطاير الغبار خلف أطراف أثوابهم منهزما  يرتد حسيرا  , فالقادم الساعون بلهفة إلى لقائه يبشر بذلك ويؤدي في النتيجة النهائية إلى كسر سطوة الغبار وتحطيم حلقاته التي تحيط المكان بأغلال قحطها ويباسهـا .
هكذا يأتي الاستقبال حارا  يليق بشخص القادم ومكانته يزدحم بالعواطف الجياشة التي ما انفكت تفيض تحرقا  وشوقا  للقياه , الانتظار وطوله قد شحن العواطف وأفاضها دفاقة صادقة عفوية لا يحدها ظرف ولا يقعـد بأصحابها شاغل عن ملاقاة الغائب فمجرد قدومه قد خلق واقعا  مغايرا  . اذ ذاك لا لحظة في الزمن من قبل ومن بعد إلا لحظة الرضا تلك , بالنسبة لهم إنه الغائب الحاضر .. الغائب في السماء , غيبا  لا يقدره إلا الله بقدر يرسله عليهم خير ورحمة , الحاضر في ذاكرتهم حضورا  مؤسطرا  تمتح منه الذاكرة الجزء الغالب من مكونها الثقافي / الإجتماعي بقصصه وأساطيره وخرافاته . كلهم معلول بشر وحيوان وحجر وشجر بالنسبة لمكانته وهو بالنسبة إليهم علة في ذاتـه .
(5)
على حافة التلال والمرتفعات الجبلية كانت تتراءى لخطواتنـا الدرب على فتيل سراج يقودنا في عتمة الظلام الحالك في تلك الليلة القارسة البرد متدثرين باللفاعات الثقيلة فوق الدشاديش اتقاء البرودة التي تتسرب في ثنايا العظام برودة الجبال التي تهب مع نسائم الليل الطرية تنساب في هبات باردة جافة من السفوح والفجاج المحيطة تحت سماء غائمـة ننهب الطريق في خطو عاجل تختل أقدامنـا وتنزلق هكذا نحو مصيرها فوق حصوات تتقافز تحت خبطاتها الواهنة , مدلين ظلالنا التي يدلقها السراج تحت الأقدام والتي يظهر رسمها على هيئة أشباح وكائنات ليلية نقفو خطواتهـا وسط ذلك الظلام المدلهم . السماء مكفهرة من فوقنـا ترجهـا الرعود وتشعل أوارهـا البروق نمضي مسرعين تحت وابل المطر . على مرمى حجر كانت القرية , تفطن حميرنـا بسليقتها الغبيـة إلى مسالك الدروب إليها . ينهمر المطر ونغـذ الخطا مسرعين نحلم بدثار بظلة أو جدار , لكن السيول الكاسرة تسد المنافذ إليها .. إلى القرية الحلم ونظل طريدين في العراء .
 

اعترافات وجه في المرآة



» لم يعجزني عمل رغبت فيه, حتى وأنا طفل, حين كنت افتقد شيئا أتمنى الموت: أردت الاستسلام لأنني لم أر معنى للجهاد. شعرت إنه لا شيء يمكن إثباته او إضافته أو اسقاطه بالاستمرار في وجود لم اختره.
كان كل شخص حولي يمثل فشلا, وان لم يكن فشلا فسخرية, خاصة الناجحين منهم, لقد استاء مني الناجحين حتى الموت«.
لعنت بلادتي بعد ساعة كاملة من التفتيش في اللغة عن مدخل, ووجدت ليس أسهل من هنري ميللر لإنقاذي من هذا الامساك المخجل, مقطع من الصفحة الأولى من رواية ؛مدار الجدي«, فمازلت اعتقد ان الصفحة الاولى من أي كتاب مهما كان حجمه هي التي ستقرر مواصلتك قراءته الى آخره أو الإحجام عن هذا الفعل, وقذفه فوق أحد الرفوف نهبا للغبار.
إني اصاب بالضجر من أول وهلة اتخيل نفسي نائما أنظر ببلادة الى سقف الغرفة اطارد الأفكار وأختار الكلمات وانضد العبارات, وفي نهاية ذلك تكتشف انك لم تصدق في كلمة واحدة مما كتبت, مقارنة بالذي تريد أن تقوله.. تبا تبا لهذه الكذبة (اللغة) التي أورثنا اياها مع بقية المتاع.. أليس صفير الريح أصدق عبارة من كل قواميس اللغة مجتمعة? وأليس اهتزاز سقف من صفيح أبلغ اجابة من كل أدبيات هذه اللغة, لنداء الريح.
أحاول جاهدا أن أتخفف من الشياطين التي تقرفص فوق رأسي, وأن اعتاد الثرثرة في كل شيء.. أعود تائبا الى المجتمع بأدبياته اليومية, من غي كنت فيه, أن أسالم الجميع في القاسم المشترك الذي يجمعهم.. ما أصعب أن تعيش وحيدا خارج القطيع!!
لكل مرحلة عمرية أسئلتها الملحة فكلما خطا بك العمر تكون في مواجهة سؤال ملح يبقى يتردد في الذهن بالحاح وقلق ليس من سبيل الى مدافعته والهروب منه أو اهماله وصم الآذان عنه هذا السؤال, وفي مرحلتي العمرية الحالية بات يتردد في ذهني سؤال مهم وخطير في نفس الوقت, هو هل انتهيت, بعبارة أخرى هل هذا هو أقصى ما يبلغه مشواري في الحياة?
تحرك الى الامام لا تتصالب هكذا أيها الحمار, الطريق لن تفسح لك مكانا في المرتقى الى الذروة وأنت على ما أنت عليه من كسل وتخاذل, تقدم أيها البغل خطوة, بالكاد خطوة.
لعله لم يتعود رأسك الصلب البليد على دوار المرتفعات, ليس في عينيك الغبيتين أثر ألق الذرى, ما بال فرائصك ترتعد على المرتفعات ولا تقوى على الصمود في الطريق الى حيث القمة.
ليس لك شموخ الأنف الذي يتنسم الهواء حرا في الأعالي, لقد تعودت أن أوبخ نفسي بقسوة جلدا على تهاونها ولا مبالاتها.
لم أجد اجابة على هذا السؤال, لكنه يبقى يزلزلني برجعه الهادرة, فهو لم يطرح علي من الخارج لأصم اذني عنه متهربا من التفكير في الاجابة عليه, لكنه ينطلق هذا السؤال ويقرع بعنف من الداخل.
ماذا يهم كيف تبدو حياتي بعد سنين?.. أني غير مكترث لذلك أقولها بملء فمي, فكما يبدو من مسار حياتي المتعرج والملتوي كالحلزون, أن قانونها الفوضى ومهما حاولت التنصل من هذه الصديقة الوفية الفوضى, بإتباع نهج واع  أقدر عليه مسار خطواتي حرنت هذه الحياة كتلكؤ البغال على المنحدرات, وتستطيب حياتي أن تضرب هكذا على غير هدى ولعل ما يؤلمني في الأمر برمته هو أني ما زلت أخبئ الأمل في داخلي لإعادة هذه الحياة الى رشدها, برغم كل الفشل الذريع في كل مرة.
وأهمية ما أبذله من محاولات جاهدة للاستزادة من المعارف لا أكاد اتبينها, ولا حتى أجد لها داعيا من الاساس في حياتي, فهذه المحاولات لا تنطلق ضمن هدف معين تتساوق باتجاهه خطوات حياتي, وكأن الأمر برمته مقدر بالاتجاه في خضم تيار جهة الامام, الامام عندما لا يكون في قانون حركية التيار في المتناول وجهة خلفية لاعادة الحسابات على أرصفتها وللتيار الحق أن ينطلق بنا باتجاه المجهول ما دمنا أسيرين خضمه.
فما كنت أضعه من استنتاجات حول بعض الأمور التي حدثت في حياتي, تجزم بكل النسب انها تتطور ضمن نتائجها السببية البحتة الى حاصل ايجابي لاشك فيه, لكن ما تتكشف عنه الأمور في النهاية بتراجيدية ولا معقولية يجعلني أؤمن انني رهن صدفة عمياء تقودني الى عماء ماحق من الصدف المتوالية, والهلوسة في أمر صدف حدثت وستحدث, وتخيلات وأحلام يقظة الى ان أطرق برأسي الذي يغدو خاليا حينها من لحظة واعية يبني عليها فعل واع , بوابة الجنون.
وقد لن يحدث الجنون بالمرة طالما أن وقع حياتي الرتيب والسائر هكذا كماعون منقلب على وجهه غارق الى النصف في جدول, لا يخضع للاستنتاجات أو التوقعات... فماذا سيحدث?
أني املك كل الأسباب للسقوط والتهالك والاندثار ولا أملك أدنى سبب لأقول لطفل صباح غد في هذا العالم بأسره, صباح الخير.. رغم ذلك ما زال خيط يشدني إلى الحياة.. لا أعرف كنهه.. تبا تبا لم ينقطع?
في أي من الأوقات لم اجدني أقبل على الحياة, كنت كأنني متفرج من الخارج على ما يدور وما يحدث, ولم أملك حماسة المشاركة والانغماس في تفاصيلها وظني ان هذا سيكون صفة عضويتي في الحياة وما ستعنيه بالنسبة لي طوال ما يستغرقه عمري وهو عمر طويل بالقياس بحيوات أنواع كثيرة من الطيور والحشرات والزهور اكثر جدوى لتجدد الحياة وتواصلها, عمر طويل لا احتمل تلكنه الآسن.
ربي لماذا أسرفت علي بهذا العمر بالقدر الذي لا احتمله.. ربي إني لا أشك في حكمتك, لكن ماذا لو وزعت نصف عمري على دزينة من الشتلات وخلايا النحل لأينع وأخضر بستانك اكثر حينها.
لماذا لا استيقظ غدا لأتنصل من كل شيء ومن أي دور لي في فصول هذه المسرحية الاجتماعية الممثلة بإتقان رتيب وجاهز وكاذب ومنافق زاعقا في وجه أمي بأنعت الأوصاف, وتعريفها بأنها ليست سوى سبب حيواني تناسلي بالنسبة لي, معطيا الحق لنفسي بالقيام بفعلة شائنة على مدخل المؤسسة التي أعمل بها, تثلم أوثان أعرافهم ومسلماتهم التي يعبدونها.
لا يشغلني أي كان الفعل الذي سآتيه أثناء ذلك عن التفكير في مقدسات جديدة للكفر بها, ومسلمات لأقذفها بالروث, لكن لاتجنب هذا العناء كله لماذا لا أحمل حقيبتي وأمضي.
هدوء بمقدار ارتطام نيزك بجبهتي دون رضوض تذكر
هدوء هذا الصباح
هدوء مشوب بالحذر
من قدر ما زال في الخفاء يمهد لولائم مترعة بالمصائب والكوارث في العطفة التالية من الطريق.
مجسدا فينا بفرح طفل بدأ للتو لعبته المحببة الى قلبه, سياسة الأرض المحروقة هذا القدر.
بالنظر الى مسار الطفولة والصبا لذلك الطفل, الانطوائي والخجول في نفس الوقت تحت حزم صارم للتنشئة من قبل أب متشكك ومرتاب الى أقصى مدى فيما يخص تجسيد نموذج للرجولة لا سبيل الى أن يداخله نقص او فتور هذا النموذج.
نموذج رجولة كان يعشش في رأسه الأشيب, صورة طبق الأصل لرجولات أسلاف واجداد قساة حيث صنعتهم الطبيعة الوعرة والقاسية لمنطقة السكن الجبلية (المستقر لقرون خلت لهؤلاء الاسلاف والاجداد), وكانت الحروب الأهلية الضاربة, الخلفية الدرامية أو فلنقل الميليودرامية لهذه الرجولة الفادحة بتضحياتها, وأخ أكبر كان بمثابة المخلص الأمين في الحفاظ على أمجاد هذه الرجولة ونموذجها العتيد المتمثلة فيما يروى من أمجاد وبطولات وشي  ت وطعم  ت بها سيرة الاسلاف والاجداد هؤلاء, سمعها هذا الأخ الأكبر وتربى عليها طوال طفولته واستنبطها في لاوعيه فجاء نسخة أصلية من الأب في الحرص على صون صورة الرجولة هذه وعبادتها وتقديسها وصب كل طفل يولد للاسرة قالب أصم من نموذجها المقدس.
أقول بالنظر الى مسار الطفولة والصبا لذلك الطفل الانطوائي والخجول ومع التصاعد في التطور والتأزم الذي يشهده مسار هذه الطفولة, تأتي الانعطافة الموترة للأحداث وتبلبلها واهتزاز الثوابت التي كانت تتحكم في البنية الدرامية للمسار, فيما سبق.
كانت هذه الانعطافة التي لها أهميتها الكبيرة في تشكل حياة الاسرة بشكل عام وتشكل الطفولة لدى ذلك الطفل بشكل خاص, على وجهة أخرى تتمثل في انتقال السكنى من المستقر الاول ومحيطه الجبلي للاستقرار بجانب الساحل, وهو انتقال من كيان اجتماعي له قيمه الراسخة رسوخ الجبال التي تحيط بالمنطقة من كل جهة, والمحافظ في اطار بنية قبلية عشائرية لها نظامها الداخلي الخاص في التعاطي مع الامور, الى مجتمع آخر يتميز في تركيبته بالتنوع في السكان نظرا الى انه مجتمع ساحلي وكونه يشكل منطقة جذب للهجرة اليه, وتميزه هذا المجتمع الجديد بالمرونة والميوعة أيضا في استقباله لمتغيرات العصر وتكيفه وتعاطيه معها في فجر للتغير والنقلة الاجتماعية والاقتصادية كان ينبثق حينها.
لم تكن هذه الانعطافة التي حدثت بالانتقال من المكان الاول الى المستقر الجديد الا لتزيد حارسي نموذج تلك الرجولة المجيدة (الأب والابن) استشراسا, في الزام جميع أفراد الأسرة بهذا الفهم الاحادي الاوحد, فكانت شراسة تمتد عميقا لتنال من وداعة الطفل وتبديد هناءتها, بالاوامر والنواهي والتحذير والتخويف المبالغ فيهم .






الكوخ 
أغراهما المكان بالتوحد معا، بالتواجد بين جدرانه في تلك الساعة من النهار وفق موعد مختلس، مسبق قد ضرباه بينهما بعد تحين للفرص الشحيحة التي ما كانت يواتيها الحظ السعيد للتحقق على شحها وندرتها، والتي ربما الفرصة تلك الذهبية المعدن من ندرتها ما كانت تحسب انتصارا يتحقق أخيرا لقضية لقائهما الذي تحرقا شوقا الى تحققه، لولا أن تركا نفسيهما منساقين بفعل دافع التلهف اللحوح واللجوج في أثره عليهما، يدفعهما من خلفهما الى ذلك المكان من غير ان يحسبا للأمور حسابها مثلما يتم عادة في أمور حوذيها العقل ليسوسها بسوطه لا شيء آخر من جوارح الجسد. لقد اغراهما المكان بالتوحد معا بين جدرانه اذن مثل علاج يكتشف لمرض يأخذ بالمريض به مكابدة وتألما، من نبتة ما كانت قبل ذلك تخطر على بال. لقد أغراهما كوخ السعف على ما يوفره من خلوة بعيدا عن أعين الناس بالالتقاء في داخله ذلك النهار بعد أن اعيقهما الحيلة في توفير المكان للقائهما، فهو (الكوخ ) ما كان يناسب ظرفا طارئا ومختلسا كهذا اللقاء، طالما كان مكانا مهجورا منذ زمن مستباحا للاهمال متاحا للتداعي والتقادم ان يسكنه على مهل. فها هو في ذلك النهار يستقبل فجأة وعلى عجل زائرين لاذا تداريا من أعين الآخرين تحت سقفه، وعلى ما يفترض من رثاثة حال وتداع في مكان يتمطى في جوانبه الاهمال، اندسا بلهفة غير عابئين بما حولهما سوى الذي هربا به من أعين الناس في جرأة لاقتسامه بتلهف ومتعة برقة وخوف بألم ورحمة. لكن في مكان ناء ومهجور بالمرة مثل هذا المكان قد يعن للفضيحة ان تمشي على بطنها رويدا رويدا كأفعى تباغت ضحيتها، وقد يعن للفضيحة أن تنقض كصاعقة لا يملك حيالها سترا وقد بلغ افتضاحها العظم. فربما أفضى الى نتيجة محققة مثل هذه فضول عصفور استرعى نظره نوع غريب من العراك والمخاصمة صفته على نحو الحظ المتبادل على ايقاع الالم بين الطرفين والسعي اليه وطلبه هذا، الألم وايصاله الى ذروته بينهما مع المعاودة في تسلقهما الذروة والوصول الى منتهاها كجبليين عنيدين المرة تلو المرة (ما يضاعف الفضول ). وبحسابات عصفور يتجاوز المشهد من أمامه الى السماء الرحبة لم يتبق منه هذا المشهد من اثر في ذاكرته الا غرابة توسل العراك بين خصمين والحظ المتبادل عليه وطلبه بينهما. إلا أن حسابات صياد أهوج يتقدم بغريزة سلوقي في أثر ما يعتبره مغنما وصيدا سانحا لسيدته التي تعتلي ظهره، يلقمه لفوهتها، غيرها تلك عند العصفور. فالصيد ليس سوى انتهاز الفرصة السانحة والاستفادة منها واستغلالها هذه الفرصة بالكيفية التي تفيد منها حسابات صياد فوهى نهم الى اقتناصها.

 

اقتحام

احتاجني من الجهد الكثير جهد محموم دفعت بأطراف أصابعي على غير هدى.. أعرف الطريق الى العش عين المعرفة لكن آه من اضطراب الرؤيا في السرابات البعيدة للسبخات، من دوار المشي على الحواف الشاهقة. خاطب ليل تبعت أثر أصابعي تدب بين انثناءات وتغظنات القماش.. سأخترع للقفل مهما كان عصيا ومحكم الإقفال، مفتاحا. انفراجة بسيطة لظلفة الباب تكفي تمكنني من الدخول بظفر والتمتمة بصلاتي لاثما رخام الصحن الداخلي للمحراب. لن يصدني لن يوقف تقدمي أعلنتها، استبسال حجاب المقام.. كانت رشوتي لهم جزيلة هؤلاء الحجاب فكان تواطؤهم، ماكرا بما يكفي لتحويل تهمة الخيانة العظمي بعيدا عنهم الى آخرين : عسس أهملوا نوبتهم في الحراسة. مدفعيتي الثقيلة توالي إمطار التحصينات بقذائفها لا مجال للمقاومة، قد استوعب الجنرالات في الجانب الآخر ذلك على ما يبدو فهم يسارعون بحمية الى الدفع بالجيش الى حتفه الى آخر جندي مما يقرأ بعد ذلك في مذكراتهم بأنه تكتيك ألهمته الهزيمة لهم، لمحاولة استعادة المبادرة في المعركة. ثلمات بعض ثلمات في السور.. ثغرة في السور ثغرات في السور.. بأصابع مرتعشة.. لصه انتهيت من لـ ز ر ا ر لـ أ و ل.

لقطة

على مقربة منهما لصيق بمشهد خلوتهما كنت، لا أمنع نظري من الاستمتاع بما أرى أمامي فضول أو تعويض لمتعة ليس بالسهولة الحصول عليها وورودها أو هي غير متوافرة بالمجانية التي أراها ممارسة بقربي، تابعت بشغف لهفة إقبالهما على بعضهما البعض ركزت جل انتباهي في اللحظة التالية، عطلت خيالي وتخليت بكسل عن المشاركة في تخيل اللحظات في تصاعدها خلال سيل من القبلات الحارة التي يقبلان بهما وأحدهما على الآخر، بانتظار الذروة التي لم أشك إنها آتية بسخاء تهتكها وافتضاحها لغلواء الفعل الغريزي إن ي يعقب لحظة حميمة كتلك. بسلبية استعجل الأمر لصعود الذروة لهذه الممارسة التي اندمجت فيها أتمتع أيما متعة بمتابعتها، وأتذمر في داخلي من تلكؤ وبلادة حمار أحمله مسؤولية التأخير في مشارفة الذروة، أصب عليه اللعنات : تبا للحمير هي وراء كل فعل لا يكتمل، أجده يحرن يظل لابثا على المنحدر لا يتقدم خطوة إلى الأمام إلى أن تزل أحدى قدميه ليسقط في الحضيض. فجأة تغيم الشاشة لتنتقل إلى لقطة أخرى أكثر حشمة.


حكاية عمانية حسن بن مكران
وشيروك الزطي إذ جرفهما السيل


هزئ حسن بن مكران بالوادي فجرفه السيل مع سيارته الكلوزر. هو جاء من الساحل لجأ إلي الواحة في إحدي هجرات الصيف التي اعتاد عليها سكان السواحل إلي واحات الداخل الجبلية هرباً من شدة الرطوبة الخانقة التي يبثها البحر وحرارة الشمس المحرقة في الصيف حيث الشجر الذي يقي من هذه الحرارة قليل، فلا شيء علي وجه الأرض هناك إلا الرمل الساخن والهضاب البركانية السوداء التي تختزن حرارة النهار بطوله وتؤججها حمماً في المساء، والتي تنفذ في أجزاء كبيرة منها في عمق البحر وكأنها تغطس في مياهه لتطفئ الحريق الذي يشتعل فيها وتأخذ حماماً منعشاً من عناء ذلك.
لم يستطع أن يفرق المسكين بين موج البحر الذي ينكسر علي الشاطئ مخلفاً رغوة بيضاء نظيفة أو الذي يمكن التعامل معه بمهارة والعوم في مياهه وبين تيار السيل الجارف يؤججه شبق سنين من القحط ينطلق في عنف من سفوح الجبال لا يلوي علي شيء، جرفه الوادي حمله تيار المياه الذي يندفع بغزارة شديدة، هو وسيارته ضمن ما يحمل من أعجاز نخل يقودها أمامه مسجاة، وسقط متاع منازل مشرعة علي مجراه وربما جاثمين غرقي كان قدرهم كقدر حسن بن مكران، خبأها في لجته الغبراء التي توقظ الخيال عند أطفال الواحة بالأمنية في أن ما يرونه في غزارة تفيض بها ضفاف الوادي، شاي بالحليب اعتادوه من الأمهات في صباحاتهم مغمس بالخبز اليابس قبل أن يقذف بهم إلي سقيفة معلم الواحة الأعمي يقرأون كتاب الله علي يديه بين إغفاءة عين وصحوة أخري، يذيقهم الويل بعصاه.
القرويون من سكان الواحة وقد صروا اللؤم في لحاهم الطويلة المشعثة الشاخصون بالحسد والمكر من عيونهم التي يبللها بسائله الدبق صديد التراخوما وقفوا علي حافة الوادي في مجموعات وقد بدوا أكثر حذراً من أن يفرطوا بأجسادهم الهزيلة الضامرة طعماً للسيل، فهم بانتظار أن تنجلي لجته ليلتفتوا لتصريف حصتهم من الماء التي خلفها خوة لمروره، يقتاتون عليها أعواماً بطولها.
لقد ظلوا يتداولون ويتناقلون تلك القصة بإضافات وزيادات شتي حتي طغت علي تفاصيل الحادثة الأصلية وسط متعة أحاديثهم عن السيل في تجمعاتهم ومجالسهم عمدوا في رواياتهم بإضافاتها وزياداتها بايقاظ حسن بن مكران من مماته وتقليبه بين ألسنتهم علي شتي صنوف الإدانة والاستهجان من فعلته الخرقاء حين جرؤ علي اجتياز الوادي بآلته اللعينة كما يصفونها لا يحمل إلا تحدياً أرعن وتجاوزاً وقحاً لحدود سرمدية لا يقاس جسمه الحقير وإمكانيات آلته صنيعة الكفر بمدي قدراتها وقوتها، إذ لا حيلة لطينة أرضية خلقت من ماء مهين إلا الذوبان والامحاء في مياه نهر الفناء والعدم في نظرهم، لقد كان كفرا مبينا. هزئ من مشيئة قدرة مقدرة. إلي الهلاك سعي، فحصد الهلاك ، لم يكن شيء يحضهم علي التعاطف مع قصة حسن بن مكران وحادثة مماته غرقاً في السيل منذ أن أطلق حسن مكران ذات أصيل في سوق الواحة أمام أسماع الكثير منهم، تحدياً علي اجتياز الوادي في عنفوان السيل بسيارته، والتي أعلي من شأنها بمديح خصالها أمامهم، معطياً هذا التحدي زخماً من التصميم والثقة بما هو مقبل عليه من فعل وضمانة نتيجته في الأخير. تعن لهم المقارنة في معرض هذه القصة الشديدة العبرة، مقارنة بطلها أو ضحيتها حسن بشيروك الزطي (الغجري) في حادثة مماثلة كانت مقدمتها تقطر استهزاء وتحدياً للوادي وكانت في نهايتها عبرة لكل معتبر حدثت مع سيول جائحة السبعين التي لم تبق ولم تذر من البشر والحيوان والشجر والحجر.
كان الزطي الحداد شيروك قد نزل ورهطه من الزط المنبتين من أواصر حمولات أهل الواحة وروابط العشيرة والقرابة بين سكانها المقذوفين في فراغ الحسب والنسب وفراغ اللامكان، علي أطراف الواحة في خيام من الشعر مهلهلة منكبين في كد ونشاط في صناعة حدادتهم وممارسة الحجامة أما نساؤهم فاعتيادهن اليومي كان طرق أبواب البيوت بذل السؤال، وممارسة الختانة كاختصاص آل إليهن احتكاره من قديم الزمان، وعندما كانت رؤوس الجبال تتحسس علي سفوحها ومنحدراتها أول بدايات تشكل مدحلة السيول التي تنحدر من ارتفاعات شاهقة وقد اندلقت قرب السحاب العملاقة بمخزونها من المياه بعنف كان يواتيه تلبد السماء واكتظاظها بالغيوم السوداء التي بدت واطئة قريبة من الأرض لفرط ثقلها بالماء. انهمك شيروك يتسلق جذع نخلة هرمة تتوسط الوادي استزرعها تيار السيل في مجراه فسيلة مشاعا وبما أنها كذلك أمل بمعالجة طلع عذوقها بالتخصيب أن يتمتع بجنيها في موسمها القادم وبرغم تحذيرات العارفين بخطورة كبيرة تدخل في غمارها تلك اللحظة الفاصلة من الوقت وقد بدت قبة السماء كثوب حداد داكن يزيده شخبه المتواصل منذ ساعة بالمطر الغزير قتامة تنذر بانفجار جنون السيل بهديره الجارف وبالنسبة لهذه النخلة فهو يستكمل مهمة جريانات سيول عديدة مصممة علي تأثيث مجراها بنفسها تصميما لا يجرؤ أحد علي تحديه أو الإخلال بنظامه، تسعي فيها سعياً دؤوبا لاقتلاعها من جذورها.
والسيل يخض مجري الوادي بتيار مياهه المندفعة الهادرة في جنون تكتسح كل شيء يواجهها، تبدو النخلة للنظارة المجتمعين علي ضفة الوادي يرفعون عقيرتهم بالاستغاثة وبالاندهاش في سعة حدقات عيونهم والهلع البادي علي قسمات وجوههم من أثر المشهد الذي يعايشون تطوره نحو التأزم الكارثي، وتدا مغروسا في الماء فهي إلي منتصفها كانت مؤتزرة بالمياه التي كانت تضطرم حول ساقها الأعجف بتيار وتموجات هادرة كوحوش كاسرة قد أخلت الفرصة السانحة بينها وبين فريستها، وكان شيروك الذي يتدلي من أعلي القمة يبدو كسعدان خانه ذكاؤه.
حكاية الظلال

هيئات كانت تخطر في السكك والطرقات التي كأنها تعج بصور سالبة لبشر غائبين عن ملامحهم أو مسلوبين كأنما بعمل سحري لهذه الملامح، هيئات من ظلال وكأن في استعراض حياة معفية من ثقل الجسد، ظلال توارت أجسادها أو اختفت بفعل لعنة أصابت إحدى القرى أو سحر أسود حاق بأهلها ذات يوم.
فعند بدايته ذلك اليوم وتحت شمس نهاره المشرقة لم يكن هناك أثر للناس سوى ظلالهم التي كانت ترتسم تحت ضوء الشمس منعكسة على أديم الأرض وفي الطرقات وعلى الجدران بهيئات بشرية خالية من الملامح المعرفة، فلا أحد باستطاعته التعرف على أحد في ذلك النهار سوى بالأصوات التي كأنها أصداء تخرج من جوف الأرض أو من شقوق الجدران. مشكلة هذه الأصوات المعرف الوحيد على أصحابها بعد أن توارت الملامح والأشكال للوجوه والأجساد خلف ظل معتم.
وبعد أن أصبح هذا الوضع الغريب الذي ألم بالقرية حالة دائمة لا فكاك منها مضى عليها عشرات السنوات، يقال إن الولادات والميتات أخذت تحدث في القرية بشكل أكثر غرابة، ففي عدة مرات في السنة يقال إنه تخرج سحابة سوداء من جهة المشرق فتغطي بسوادها ضوء الشمس بما يكفي من الوقت لمسح الظلال المنعكسة ومحوها بظلها الواسع الذي يلقي بثقله على القرية، وبعد برهة فحينها تتبدد السحابة وكأنها لم تكن، كاشفة عن ضوء الشمس وتحته تعود منعكسة تلك الظلال البائسة مرة أخرى لكن بتغير واضح في أعدادها وأحجامها بما يختلف عما كانت عليه في السابق قبل ظهور السحابة، فكأن الموت بات في واقع هذه القرية مجرد اختفاء وانسلال ظلي يحدث في غمضة عين. كذلك فإن الولادات باتت في الواقع مجرد زيادة في مواجهة النقصان الحاصل في أعداد الظلال.
ولقد عرفت القرية بعد مدة طويلة بعد أن شاع خبرها في البلدان والأصقاع بقرية الظلال، فكان يتحاشى المسافرون المرور بها تطيرا منها كونها قرية ملعونة في نظرهم، إلى جانب الاستحالة في التعامل مع الظلال بأي شكل من الأشكال، فقد ظلت القرية مكاناً مهجوراً يقع في زاوية قصية من مكان موحش منسي من ذاكرة البشر يمر على حافته طريق للقوافل لا يسلكه سوى الرحالة والتجار الأقوياء القلوب، فلم يكن يقصد لزيارتها إلا شغوف بكل غريب قوي في شغفه فيدفعه إلى اقتحام الأخطار وتحدي الشدائد إلى ذلك، وهم قلة من يحملون مثل هذا الشغف وقوته.
ومع إن الظلال قد تحملت وحدتها لقرون وقرون من الزمن متناسلة جيلا ً بعد جيل كإصرار قوي منها على البقاء، إلا أن بعد هذه المدة الطويلة التي عانتها من الوحدة والعزلة فاضت هذه الظلال كسيل جارف متدفق لا يوقف فيضانه شي، فاضت في جوف الليل فأغرقته بهيئتها الشبحية، فذات مساء تتلون سماؤه بفضة وضاءة مشعة يسكبها القمر من عليائه على الأشياء في الأسفل ويحيلها كحلية عروس، تدفقت الظلال فغمرت الليل محققة في كنفه خلودا أبدياً: طفولة لا يدركها الشباب وشباباً لا يدركه المشيب.
منذ ذلك اليوم الذي غمرت فيه الظلال الليل زادت هدهدات الأمهات لأطفالهن التي يطلقنها بصوت شجي في جوف الليل، يرجون فيها السلامة لصغارهن والنوم العميق الهادي من
منغصات أرواح الظلام التي خرجت من عقالها، وزادت طاقة الخيال واجتراحه لتفاصيل حكاية لا تمل في ليل شتائي طويل، وعمّت الليل تمتمات تعاويذ وأدعية، وعمّ الليلَ هسيسٌ لا يقف أحد على مصدره.


  



خطأ في العنوان






في المقهى الذي اعتدت أن اذهب لاحتساء قهوتي وتصفح الجريدة فيه بشكل يكاد يكون يوميا،تفاجأت بالنادلة التي تعمقت بيني وبينها معرفة ودودة لكثرة هذا الاعتياد الذي أنا متورط فيه للمكان وناسه،تفاجات بقولها لي وهي تضع القهوة أمامي ،بان أحد الأشخاص قد وضع لك أمانة عندي وقد ذكر بتسليمها لك بالاسم . . نعم بالاسم . . الثلاثي حتى، ألست أحمد سالم الجلط ؟ .

وسرعان ما كانت المفاجأة أن تكون عادية . .فما الغرابة في أن يترك أحدهم أمانة لأحد آخر موصيا بها سواء نادل أو نادلة في مقهى . . لولا أن النادلة قد باغتتني بمفاجاة بأثقل من الأولى وهي : أن كون الأمانة التي تركت لي عبارة عن مبلغ ضخم من المال، قد شغل صندوقين من الحجم الكبير صنعا من الورق المقوي ،دهشت عندما أرتني إياهما وهما مركونين في زاوية منعزلة في المقهى .

بعد ذلك لم أتذكر قهوتي والجريدة المفرودة على الطاولة ،لم أتذكر أن أشكر النادلة على أمانتها ،لم أتذكر دفع ثمن القهوة التي بردت ولم أتذكر أيضا أن أحمل جريدتي التي احرص على الاحتفاظ بها


،تحملت بصعوبة كبيرة وزن الصندوقين على كتفي ومضيت مسرعا بعد أن خططت على ورقة ما يشبه عنوان ،ألحت علي النادلة بان أسجله لها ،لأنه يعتبر الشرط الوحيد لصاحب هذه الهبة الثقيلة لإتمام الاستلام .

ولمدة طويلة لم تطرق قدمي المقهى منذ أن مضيت مسرعا وأنا أحمل الصندوقين على كتفي، برغم إنه لا يبعد كثيرا عن مسكني ،لكن بعد أن أعيتني الحيلة في إمكانية صرف العملة المحشوة في الصندوقين أو معادلتها بعملة أخرى لدى أي من الصيارفة الذين أبدو كلهم عدم معرفتهم بهذه العملة ولا القيمة التي يمكن أن تمثلها،عدت إلى المقهى  لأجد النادلة في استقبالي بعد أن كانت تتلهف عودتي طوال المدة التي غبتها عن المكان لتخبرني بأن الشخص الذي ترك الأمانة مر في المرة الأولى وأخذ الورقة التي تضمنت العنوان، ثم عاد في المرة الثانية ليعبر عن خيبته من خطأ العنوان المكتوب في الورقة،وأسفه الشديد على ضياع الفرصة الوحيدة التي كانت متاحة بواسطته لصيرفة هذا المبلغ الكبير من المال،فحينها طلبت قهوتي المعتادة وفردت جريدتي،وحرصت بعد ذلك على دفع ثمن القهوة وشكر النادلة.